الصحابي الذي اختبأ في الجبال 40 يومًا خوفًا من الله
التاريخ الإسلامي مليء بالقصص المؤثرة التي تجسد القيم الروحية العظيمة، ومن بين هذه القصص، تبرز قصة الصحابي ثعلبة بن عبد الرحمن، الذي مرَّ بتجربة روحية فريدة بعد أن وقع في ذنب صغير، لكنه اعتبره عظيمًا لدرجة دفعته للهروب إلى الجبال خوفًا من غضب الله وعقاب النبي ﷺ. في هذا المقال، سنروي تفاصيل هذه القصة المليئة بالعبرة والتوبة الصادقة.

ثعلبة بن عبد الرحمن
كان ثعلبة بن عبد الرحمن شابًا من الأنصار، أحب النبي ﷺ حبًا شديدًا، وكان من الذين يترددون عليه ليخدموه في أمور حياته اليومية. كان قلبه معلقًا بالله، يسعى دائمًا لنيل رضا النبي ﷺ، ولم يكن يخطر بباله أن خطأ بسيطًا سيسبب له هذا التحول الكبير في حياته.

الذنب الذي غير مجرى حياته
ذات يوم، أرسل النبي ﷺ ثعلبة في مهمة بسيطة، وأثناء سيره في طرقات المدينة المنورة، مرَّ بجوار أحد المنازل، وكان بابه مفتوحًا قليلًا. بدافع الفضول، ألقى نظرة خاطفة داخل المنزل، ليفاجأ بامرأة مسلمة تغتسل. تملكه الخوف والارتباك فورًا، وأشاح بصره بعيدًا، لكنه وقع في وسوسة الشيطان، فعاد بنظره للحظة أخرى قبل أن يستفيق إلى حجم الخطأ الذي ارتكبه.
شعر ثعلبة برعب شديد، وقال في نفسه: "كيف لي أن أنظر إلى ما حرَّم الله؟ كيف أقع في هذا الذنب وأنا الذي أحب الله ورسوله؟ ماذا لو علم النبي ﷺ بما فعلت؟ ماذا لو نزل الوحي بفضيحتي؟"
لم يجد أمامه سوى خيار واحد: الهروب.

الهروب إلى الجبال والتوبة
قرر ثعلبة أن يغادر المدينة المنورة، واتجه سيرًا على الأقدام نحو الجبال الواقعة بين مكة والمدينة، وهناك اختبأ داخل كهف صغير. ظل أربعين يومًا بعيدًا عن الناس، لا يأكل إلا القليل، ولا يشرب إلا ما يجده من الماء المتجمع في الصخور، وهو لا يفعل سوى الصلاة والاستغفار، يبكي ليله ونهاره، يسأل الله أن يغفر له زلته الصغيرة التي رأى أنها ذنب عظيم.

نزول الوحي وإرسال الصحابة للبحث عنه
في المدينة، لاحظ النبي ﷺ غياب ثعلبة، فبحث عنه وسأل الصحابة عنه، لكن لم يكن لأحد علم بمكانه. ظل النبي ﷺ ينتظر عودته، حتى جاءه جبريل عليه السلام برسالة من الله:
"يا محمد، إن ربك يقرئك السلام، ويقول لك: إن الهارب من أمتك بين هذه الجبال يتعوذ بي من ناري."
فأدرك النبي ﷺ أن ثعلبة قد ارتكب ذنبًا يخاف منه بشدة، لكنه لجأ إلى الله بالتوبة الصادقة. عندها، أرسل النبي ﷺ الصحابيين عمر بن الخطاب وسلمان الفارسي للبحث عنه، وأخبرهما بمكان وجوده في الجبال.

العثور عليه وعودته إلى النبي ﷺ
عندما وصل الصحابيان إلى الجبال، قابلهما راعٍ من أهل المدينة، فسألاه عن شاب مختبئ هناك، فأجاب:
"تقصدان الهارب من جهنم؟"
تفاجأ عمر وسلمان من اللقب، وسألاه عن قصده، فأجاب الراعي:
"كل ليلة، يخرج من كهفه عند منتصف الليل، يرفع يديه نحو السماء ويبكي قائلاً: يا رب، هل ستغفر لي؟ يا رب، هل سأكون من أهل النار؟!"
توجها إلى الكهف حيث وجداه جالسًا في ضعف شديد، هزيلًا من قلة الطعام والبكاء. حاول الصحابيان طمأنته بأن النبي ﷺ لم يغضب منه، بل أرسل إليهما ليحضراه إليه. عند سماعه ذلك، بدأ بالبكاء من جديد، لكنه وافق على العودة، رغم أن جسده بالكاد يستطيع التحرك.

لقاؤه بالنبي ﷺ ووفاته
عندما دخل ثعلبة على النبي ﷺ، نظر إليه المصطفى بحنان وسأله:
"ما الذي أجهدك هكذا يا ثعلبة؟"
فأجابه بصوت ضعيف مرتجف:
"ذنبي يا رسول الله! هل لي من توبة؟"
فقال له النبي ﷺ:
"إن الله يغفر الذنوب جميعًا."
لكن جسده المنهك لم يتحمل أكثر، فقد سقط على الأرض، وبدأت أنفاسه تضعف شيئًا فشيئًا، حتى همس بصوت خافت:
"أشهد أن لا إله إلا الله... وأشهد أن محمدًا رسول الله..."
وبهذا، صعدت روحه إلى بارئها، وهو مطمئن أن الله قد غفر له ذنبه، وأن توبته قُبلت.
العبرة من القصة
قصة ثعلبة بن عبد الرحمن تحمل العديد من الدروس والعبر العميقة:
- عظمة التوبة الصادقة: مهما كان الذنب صغيرًا أو كبيرًا، فإن باب التوبة مفتوح دائمًا، والله يغفر لمن يعود إليه بقلب نادم.
- الخوف من الله من سمات المؤمن الحق: لم يكن ذنب ثعلبة فادحًا، لكنه أدرك خطورته، مما دفعه إلى التوبة بصدق.
رحمة النبي ﷺ: لم يكن النبي غاضبًا من ثعلبة، بل أرسل في طلبه وأكد له أن الله رحيم بعباده.
أن الندم وحده لا يكفي، بل يجب العودة إلى الله: لم يكتفِ ثعلبة بالشعور بالندم، بل سعى إلى التوبة والدعاء حتى آخر لحظات حياته.
كانت حياة النبي محمد ﷺ نموذجًا فريدًا في القيادة والرحمة والصبر. من ميلاده إلى بعثته، ومن الهجرة إلى بناء الدولة، ومن الغزوات إلى فتح مكة، ومن خطبة الوداع إلى رحيله، كان مثالًا يُحتذى به. ترك لنا إرثًا خالدًا من التعاليم والقيم، وسيظل ﷺ القدوة الأعظم لكل مسلم.
تبقى قصة ثعلبة بن عبد الرحمن واحدة من أكثر القصص المؤثرة في التاريخ الإسلامي، تذكّرنا بأن الله رحيم بعباده، وأن الذنوب تُمحى بالتوبة الصادقة. لا يوجد إنسان معصوم عن الخطأ، لكن العبرة الحقيقية هي كيف نعود إلى الله بعد الزلل.